الرَّدُّ الْمُفَصَّلُ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَرَ نَقْلَ الْفَتْوَى عَنِ الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ
بَيَانٌ عِلْمِيٌّ فِي حُجِّيَّةِ الْفَتْوَى وَصِحَّةِ الْاِسْتِفَادَةِ مِنْ أَدَوَاتِ الْعَصْرِ ، وَمَدَارُ الْفَتْوَى عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى النَّسَبِ الْعِلْمِيِّ فَقَطْ
كنتُ نَشَرتُ سابقًا جوابًا عن مسألةٍ علمية فقهية دَقيقة فعلَّق بعضُهم على جوابي كالمعترِضين والمستشكِلِين والمُستغرِبين مِما توصلتُ إليه فقمتُ بصياغة اعتراضاتِهم واستشكالاتهم وعَرَضتُها على ثلاثة مِن الذكاءات الاصطناعية وهي :
- شات جي بي تي (ChatGPT) .
- ديب سيك " الصيني " (DeepSeek) .
- جيميني (Gemini) التابع لجوجل .
فاتفَقوا جميعًا مَعِي ووافَقُوني في نفس الجواب الذي توصَّلْتُ إليه سابقًا فاطمأنَّت نفسي وارتحتُ لذلك ؛ لأنني أَظُن بأنه لو كان هناك أيُّ خطإ عِلمي أو خلاف فِقهي فيما أَجَبْتُ به سابقًا وهو مَنشورٌ عبر النت فسَيَكتشِفه واحِدٌ مِنهم على الأقَل ويُطلِعُني عليه فلَمَّا رأيتُ اتفاقَهم على ما كتبتُه سابقًا قمتُ بتنسيق إجاباتهم ونَشْرِها - مِن دون أي تعديل على مضمونها - مِن باب الاستئناس بها
ولما نَشرتُها على صفحتي في الفيسبوك تفاعَلَ معها بعضُ الأصدقاء وأُعجِبوا بها وعلَّق بعضُهم مُبْدِيًا مُوافقتَه على مضمونها ما عدا صديقًا واحدًا - حتى الآن - هو الذي كتب تعليقًا فيه نوعٌ من الشبهة والاعتِراض والاستِشكال والاستِنكار ليس على المحتوى والمضمون وإنما على مَدَى حُجِّيَّة الذكاء الاصطناعي وهل يُعتَدُّ بفَتواه وما هو سَنَدُه وسِلسلة مَشايخه ووو ... إلخ
وقد كتبتُ رَدًّا مُفَصَّلًا على تعليقه هذا
وإليكم نَصّ تعليقه أَوَّلًا ثم يأتي مِن بَعده رَدِّي عليه :
يقول : ( وهل الذكاء الاصطناعي حُجَّة يُعتَد بفَتواه ؟! وما هو سَنَده وسِلسلة مَشايخه وعلى أي مَذهب مِن المذاهب الأربعة ؟!
التصدُّر للفتوى له رجالُه المعتبَرون مِمن تشرَّبوا مَعارف الشرع وتمت إجازتُهم مِن مشايخ بالسنَد الوافي .
شيخٌ بلا سنَد كالحَبْل المَقطوع
السؤال : ما رأيكم شيخنا الحبيب هل يجوز تَصدُّر الفَتوى والمَسائل الشرعية بلا سنَد مُتصِل مِن عُلماء وفُقهاء مُحَدثين ؟ انتهى كلامه وتعليقه .
فكتبتُ عليه الرَّدَّ والجوابَ الآتي :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . وَبَعْدُ :
فَقَدْ طَرَحَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ سُؤَالًا مُهِمًّا جِدًّا ، وَأَثَارَ مَسْأَلَةً أَسَاسِيَّةً فِي طَبِيعَةِ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَعْلُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَذَلِكَ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى نَقْلِ فَتْوَى شَرْعِيَّةٍ صَادِرَةٍ عَنِ الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ ، قَائِلًا : " وَهَلِ الذَّكَاءُ الْاِصْطِنَاعِيُّ حُجَّةٌ يُعْتَدُّ بِفَتْوَاهُ ؟! وَمَا هُوَ سَنَدُهُ وَسِلْسِلَةُ مَشَايِخِهِ ؟ وَعَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ ؟ شَيْخٌ بِلَا سَنَدٍ كَالْحَبْلِ الْمَقْطُوعِ ! "
وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ خَلْطٌ ظَاهِرٌ وَمُغَالَطَةٌ بَيِّنَةٌ ، فَالذَّكَاءُ الْاِصْطِنَاعِيُّ لَيْسَ عَالِمًا وَلَا مُفْتِيًا ، بَلْ هُوَ أَدَاةٌ تِقْنِيَّةٌ ، وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا الْاِسْتِشْكَالِ يَكُونُ بِبَيَانِ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَمَفَاهِيمَ شَرْعِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ .
الْفَتْوَى تُعْتَمَدُ لِدَلِيلِهَا لَا لِقَائِلِهَا
الْفَتْوَى فِي الشَّرْعِ لَيْسَتْ مَقَامَ تَقْلِيدٍ أَعْمَى ، بَلْ هِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ فِي الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ، فَالْحَقُّ يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ ، لَا بِمُسَمَّى قَائِلِهِ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " كُلٌّ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُرَدُّ إِلَّا صَاحِب هَذَا الْقَبْرِ ﷺ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي " ، وَقَالَ أَيْضًا : " إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَدَعُوا مَا قُلْتُ " .
فَلَا يُرَدُّ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ بَرْنَامَجٍ أَوْ آلَةٍ أَوْ ذَكَاءٍ اصْطِنَاعِيٍّ ؛ بَلْ يُنْظَرُ إِلَى صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ ، وَصَوَابِ تَعْلِيلِهِ ، وَمُوَافَقَتِهِ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى الْمَصَادِرِ الْمَوْثُوقَةِ .
حَقِيقَةُ الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ وَدَوْرُهُ فِي الْفَتْوَى
الذَّكَاءُ الْاِصْطِنَاعِيُّ أَدَاةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ ذَكِيَّةٌ ، لَا يَتَصَدَّرُ لِلْإِفْتَاءِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى :
- جَمْعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنْ مَصَادِرَ مُوَثَّقَةٍ .
- تَحْلِيلِ النُّصُوصِ وَفْقَ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .
- عَرْضِ الْأَقْوَالِ الْفِقْهِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا مِنْ غَيْرِ تَحَيُّزٍ .
فَهُوَ أَشْبَهُ بِـ " الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ الذَّكِيَّةِ " الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَبْتَدِعُ رَأْيًا مِنْ ذَاتِهَا .
فَالْجَوَابُ الصَّادِرُ مِنْهُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ ، مُسْتَنِدًا إِلَى أَدِلَّتِهِمْ ، وَمَبْنِيًّا عَلَى مَرَاجِعَ مَشْهُورَةٍ وَمُعْتَبَرَةٍ ، كَالْمَوْسُوعَاتِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُقَارَن ، وَمَوَاقِعِ دُورِ وَمَرَاكِزِ الْإِفْتِاءِ الْمَوْثوقَة وَالْهَيْئَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ ، وَكُتُبِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ .
إِذَنْ ؛ لَا يُنْسَبُ الْقَوْلُ إِلَى الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ كَشَخْصٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِلٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ ، مُنَظِّمٌ لِلْبَيَانَاتِ ، وَمُحَرِّرٌ لِلْفَتْوَى بِطَرِيقَةٍ عَصْرِيَّةٍ .
الْاعْتِرَاضَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّنَدِ وَالْإِجَازَةِ
- " شَيْخٌ بِلَا سَنَدٍ كَالْحَبْلِ الْمَقْطُوعِ " : هَذَا الْمَبْدَأُ أَسَاسِيٌّ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ، خَاصَّةً فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ يَضْمَنُ اتِّصَالَ الْأَجْيَالِ الْعِلْمِيَّةِ وَيَحْفَظُ الْعِلْمَ مِنَ التَّحْرِيفِ . لَكِنَّ هَذَا الْمَبْدَأَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْخًا يَدَّعِي أَنَّ لَهُ سَنَدًا مُتَّصِلًا أَوْ إِجَازَةً شَخْصِيَّةً . بَلْ هُوَ مَجْمَعُ أَسَانِيدَ وَمَوْسُوعَةُ مَذَاهِبَ ، يَتَغَذَّى عَلَى كَلَامِ آلَافِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ أَسَانِيدُهُمْ وَسَلَاسِلُ مَشَايِخِهِمْ .
- " لَوْ كَانَ الْفِقْهُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ إِجَازَةٌ وَسَنَدٌ شَخْصِيٌّ ، لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّأْلِيفِ وَالْكُتُبِ وَالْمَوْسُوعَاتِ " : فَهَلْ إِذَا قَرَأْتَ فَتْوَى فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفَتَاوَى ، تَرُدُّهَا لِأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْهَا مُشَافَهَةً ؟ فَالْعِبْرَةُ هِيَ بِصِحَّةِ الْمَنْقُولِ وَدِقَّتِهِ فِي النَّقْلِ وَالْاِسْتِدْلَالِ ، لَا بِشَخْصِ النَّاقِلِ ، مَا دَامَ أَمِينًا فِي نَقْلِهِ ؛ فَالذَّكَاءُ الِاصْطِنَاعِيُّ مِثْلُ الْكِتَابِ ، وَالْإِجَازَةُ لِمُؤَلِّفِهِ ، لَا لِلْكِتَابِ ذَاتِهِ .
ضَوَابِطُ التَّعَامُلِ مَعَ الذَّكَاءِ الِاصْطِنَاعِيِّ فِي الْفَتْوَى
لَا نَزْعُمُ أَبَدًا أَنَّ الذَّكَاءَ الْاِصْطِنَاعِيَّ يُغْنِي عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَنِ الْاِجْتِهَادِ ؛ لَكِنَّهُ وَسِيلَةٌ عَصْرِيَّةٌ قَوِيَّةٌ تُسَاعِدُ فِي الْبَحْثِ وَالْوُصُولِ لِلْمَعْلُومَةِ الدَّقِيقَةِ ، وَلِاسْتِعْمَالِهِ ضَوَابِطُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا :
- التَّيَقُّنُ مِنَ الْمَصْدَرِ : يَنْبَغِي التَّأَكُّدُ مِنْ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ مُعْتَمدَةٌ عَلَى كُتُبٍ وَمَرَاجِعَ مَوْثُوقَةٍ .
- عَدَمُ الْاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ الْمُعَقَّدَةِ : فَالْمَسَائِلُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ مُبَاشَرٍ وَفَهْمٍ لِلْوَاقِعِ يَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ .
- عَرْضُ الْفَتْوَى عَلَى عَالِمٍ أَوْ بَاحِثٍ شَرْعِيِّ : إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةً أَوْ تَحْتَاجُ لِتَقْيِيدٍ بِضَوَابِطَ خَاصَّةٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَرْضِهَا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ لِلتَّأَكُّدِ مِنْهَا وَالْإِفْتَاءِ بِهَا .
خُلَاصَةُ الْجَوَابِ
الذَّكَاءُ الْاِصْطِنَاعِيُّ لَيْسَ مُفْتِيًا ، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ لِلْفَتْوَى ، يُسَاعِدُ فِي جَمْعِ الْأَقْوَالِ وَتَرْسِيخِ الْمَعْلُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ مَصَادِرَهَا الْمُعْتَبَرَةِ .
وَالْفَتْوَى إِذَا كَانَتْ مُسْتَنِدَةً إِلَى كَلَامِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ ، قَائِمَةً عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ ، مُحَرَّرَةً تَحْرِيرًا عِلْمِيًّا دَقِيقًا ، فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْ عَالِمٍ حَيٍّ ، أَوْ نُقِلَتْ مِنْ كِتَابٍ ، أَوْ نُظِّمَتْ عَبْرَ بَرْنَامَجٍ ذَكِيٍّ ، مَا دَامَ النَّاقِلُ أَمِينًا وَالْمَادَّةُ مَوْثُوقَةً .
فَالْاِعْتِبَارُ بِالْمَضْمُونِ لَا بِالْمُسَمَّى ، وَبِالدَّلِيلِ لَا بِالشَّخْصِ ، وَبِالتَّحْقِيقِ لَا بِالشَّكْلِ .
أَمَّا شُرُوطُ الْمُفْتِي ، فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ لِلْعُلَمَاءِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي التَّصْحِيحِ وَالتَّرْجِيحِ .
وَلِذَلِكَ ، فَإِنَّنَا نَدْعُو دَائِمًا إِلَى التَّعَامُلِ مَعَ الذَّكَاءِ الْاِصْطِنَاعِيِّ كَأَدَاةِ بَحْثٍ وَمُرَاجَعَةٍ ، لَا كَمَصْدَرٍ لِلْفَتْوَى .
اسْتَعِينُوا بِمَا يُقَدِّمُهُ مِنْ مَعْلُومَاتٍ لِتَوْسِيعِ مَدَارِكِكُمْ ، ثُمَّ اعْرِضُوا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ لِتَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفَتْوَى الصَّحِيحَةَ الْمُعْتَبَرَةَ .
وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْاِعْتِرَاضَ نَاشِئٌ مِنْ خَلْطٍ بَيْنَ الْآلَةِ النَّاقِلَةِ وَالْعَالِمِ الْمُفْتِي . وَاللهُ أَعْلَمُ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
إِعداد : أبي عبد الرحمن / أحمد بن محمد حربه
١٢/صَفَر/١٤٤٧هجري