تداول العملات الرقمية الفوركس أحكامه وضوابطه الشرعية في الاسلام
تُعَدُّ مَسألةُ تَدَاوُلِ العُملاتِ وبيعِها عبرَ نظامِ الفوركس (Forex) من المسائلِ الماليةِ المعاصرةِ التي ثارَ حولَها جدلٌ كبيرٌ بينَ الفقهاءِ والمؤسساتِ الفقهيةِ ، ويَرجعُ سببُ هذا الاختلافِ إلى طبيعةِ هذهِ المعاملاتِ التي تشتملُ على آلياتٍ حديثةٍ قد لا تتفقُ مع بعضِ الضوابطِ الشرعيةِ المتعلقةِ ببيعِ الصَّرفِ ( تبادُلِ العُملاتِ ) .
إنَّ الأصلَ في تَداوُلِ العُملاتِ أَنَّه جائزٌ ، إلا أنَّ الفُروقاتِ في آليةِ التداوُلِ في الفوركس هي التي تَجعلُه محلَّ خلافٍ .
وقد أَجمَعتْ مُعظمُ الفتاوى المعاصرةِ على تحريمِ بعضِ صورِ التداوُلِ في الفوركس بسببِ اشتمالِها على مَحاذيرَ شرعيةٍ رئيسيةٍ .
أَبْرَزُ المُخالَفاتِ الشرعيةِ في نظامِ الفوركس الشائعِ
- الربا بنَوْعَيه ( الفَضْلِ والنَّسِيئةِ)
- رُسومُ التبيِيتِ (Swap fees) : وهي الفائدةُ التي تُفرَضُ على الصفقاتِ التي تَبقى مَفتوحةً لأكثرَ مِن يومٍ .
تُعتبَرُ هذه الرسومُ رِبا صَرِيحًا وهي مُحَرمةٌ شرعًا .
- الرافِعةُ المالِيةُ (Leverage) والتداوُلُ بالهامِشِ (Margin Trading) : تَعتَمِدُ الرافِعةُ المالِيةُ على اقتٍراضِ المَالِ مِن الوَسِيطِ لإجراءِ صَفقاتٍ أكبرَ مِن رأسِ المالِ الأصليِّ للمتداوِلِ .
هذا القَرضُ يكونُ مَشروطًا بالتداوُلِ مٍن خِلالِ الوَسيطِ ، وهو ما يُعتبَرُ جَمْعًا بينَ السلَفِ والمُعاوَضةِ ، وهو مَنْهيٌّ عنه شرعًا لقولِ النبيِّ ﷺ : « لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيْعٌ » . كما أنَّ القرضَ نفسَه قد يكونُ بفائدةٍ ، وهو رِبا .
- التفاضُلُ في العُملةِ نفسها : مِثلُ بَيعِ دولارٍ بدولارينَ مع التأخيرِ ، وهو مَنهيٌّ عنه شرعًا .
- غيابُ التقابُضِ الشرعيِّ ( القَبضِ الحَقِيقيِّ أو الحُكْمِيِّ) :
- مِن شروطِ بَيعِ العُملاتِ : التقابُضُ الفَوْرٍيُّ في مَجلسِ العَقْدِ ؛ لٍحديثِ النبيِّ ﷺ : « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، والفِضَّةُ بِالفِضَّةِ ... فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ » . رواه مسلم (1587) . وقوله ﷺ : « الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ... مِثْلًا بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدًا بِيَدٍ » . متفقٌ عليه .
- يَدلُّ ذلكَ على اشتراطِ التقابُضِ الفوريِّ والمُساواةِ في العٌملاتِ المُتماثلَةِ ، وعدَمِ التأخيرِ .
- مُعظَمُ شَركاتِ الفوركس لا تُحَققُ القَبضَ الشرعيَّ ؛ إِذْ يَتمُّ تسجيلُ العَمليةِ إلكترونيًّا دونَ تَمكينٍ حقيقيٍّ لِلطرفينِ من العملةِ ، بل يكونُ مجردَ قيدٍ في الحِساباتِ أو مُواعَدةٍ على الصَّرفِ ، وهذا يُخالِفُ الشرعَ . كما يُمنَعُ البَيعُ على المَكْشُوفِ ( بَيعُ ما لا تَملكُه ) .
- الغَرَرُ والمَيْسِرُ ( القمارُ) :
- المُضارَبةُ المُفْرِطةُ : إذا كانَ التداوُلُ يَعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على المُضارَبةِ والمٌخَاطَرةِ العالِيةِ دونَ وجودِ تحليلٍ اقتصاديٍّ أو أساسيٍّ ، فإنهُ يَقتربُ من الميسرِ ( القمارِ ) المُحَرمِ شرعًا ، حيثُ يَعتمِدُ على الحَظِّ بشكلٍ كبيرٍ وليسَ على النشاطِ الاقتصاديِّ الحقيقيِّ .
- عدَمُ امتِلاكِ العُملاتِ فِعليًّا : أكثرُ التعامُلاتِ لا يَكونُ فِيها شراءٌ فِعليٌّ للعُملةِ ، بل مُجَردُ " رِهانٍ " على حَركةِ السِّعرِ (Contracts for Difference) ، وهو باطِلٌ .
- العُقودُ المُحَرمةُ : مِثلُ عُقودِ الخياراتِ والعقودِ المستقبَليةِ وعٌقودِ الفُروقاتِ (CFDs) التي تَشتملُ على غَرَرٍ ومُقامَرَةٍ ، ويَرى العدِيدُ مِن الفقهاءِ أنها لا تَتوافَقُ مع الشريعةِ بسبَبِ الغَرَرِ والميسرِ .
- قاعِدةُ سَدِّ الذرائعِ : إذا كانَ الشيءُ في ظَاهِرِه مُباحًا لكنه يؤدي إلى مُحَرمٍ ، فيُمْنَعُ .
والفوركس غالِبًا بَوابةٌ لِلربا والقِمَارِ والغَرَرِ .
الخُلَاصَةُ :
تَداوُلُ العُملاتِ عَبرَ نِظامِ الفوركس الحاليِّ الشائعِ : مُحَرَّمٌ شرعًا ؛ لِمَا فيهِ مِن مُخالفاتٍ كُبرى : الربا ، وغيابِ القَبضِ ، والغَرَرِ ، والمُقامَرةِ ، وقد أفتى كِبارُ العُلَماءِ والمَجامعِ الفقهيةِ بتحريمِه .
متى يمكنُ أن يَكونَ تَدَاوُلُ العُملاتِ جائزًا ( حِسابات الفوركسِ الإسلامية )
لِجَوازِ تَدَاوُلِ العُملاتِ عبرَ الفوركس ، يجبُ أن تلتزمَ المعاملةُ بالضوابطِ الشرعيةِ الصارمةِ ، وهذا ما تُحاولُ بعضُ الشركاتِ توفيرهَ من خلالِ " الحساباتِ الإسلاميةِ " . تَشملُ هذه الضوابط :
- عدمُ وجودِ رسومِ تبييتٍ (Swap-free) : أي أنَّ الحساباتِ لا تَفرضُ فوائدَ على الصفقاتِ المفتوحةِ ليلًا .
- تَجنُّبُ الرافِعةِ المالِيةِ الربويةِ : أو استخدامُ الرافِعةِ المالِيةِ التي لا تَشتملُ على قَرضٍ رِبويٍّ أو شَرطِ الجَمْعِ بينَ سَلفٍ وبَيعٍ .
- التقابُضُ الفوريُّ : يجبُ أن يَتمَّ التبادُلُ الفِعليُّ للعُملتينِ في وقتِ العَقدِ دونَ تأخيرٍ ، حتى لو كانَ ذلكَ عَبرَ الإيداعِ الفوريِّ في الحساباتِ .
وهذا هو البَديلُ الشرعيُّ لِتحقيقِ القَبضِ الحَقيقيِّ أو الحُكميِّ في المجلسِ .
- تَداوُلُ الأصولِ الحلالِ : التأكدُ من أنَّ الأصولَ المُتداولةَ ( العُملاتُ ، الأسهمُ ) هي حلالٌ في أَصلِها ( ليست أَسهمَ شركاتٍ تَعملُ في الحرامِ كالخمورِ أو الربا ) .
- تَجنُّبُ العُقودِ المُحَرمةِ : مِثلُ عقودِ الخياراتِ والعقودِ المستقبَليةِ وعقودِ الفروقاتِ (CFDs) التي تشتملُ على غَرَرٍ ومُقامَرةٍ .
- أن يكونَ الغرَضُ حَقيقيًّا ، لا مُجَردَ مُضارَبةٍ وَهمِيةٍ .
وهذا نادِرٌ أو مَعدُومٌ في أَنظمةِ الفوركس الحاليةِ الشائعةِ .
تَوجِيهاتٌ ونَصائحُ لِمَن يَعمَلُ في هذا المَجالِ ( وَفْقَ الضوابِطِ الشرعيةِ ) :
إذا كنتَ تَرغبُ في العمَلِ في هذا المجالِ مع الالتزامِ بالضوابطِ الشرعيةِ ، فإليك بَعض النصائحِ والتوجيهاتِ :
- البَحثُ عن وَسِيطٍ مَوثٌوقٍ يُوفرُ حِساباتٍ إسلاميةً حقيقيةً :
- تأكَّدْ مِن أنَّ الوَسِيطَ لا يَفرضُ رُسومَ تبييتٍ (Swap-free) .
- تَحَقَّقْ مِن أنَّ نِظامَ الرافِعةِ المالِيةِ لديهم لا يَشتملُ على قَرضٍ رِبويٍّ أو جَمْعٍ بَينَ سلَفٍ وبَيعٍ مُحَرمٍ .
- تأكَّدْ مِن وجودِ آليةٍ لِلتقابُضِ الفَوريِّ لِلعُملاتِ .
- اقرَأْ شُروطَ وأَحكامَ الوَسِيطِ بعِنايةٍ وتأكَّدْ مِن تَوافُقِها مع الشريعةِ ، ولا تَكتفِ بمُجَردِ تَسميةِ الحِسابِ " إِسلاميًّا " .
- تجنّب الرافِعة المالِية المُفْرِطَة : حتى لو كانتْ الرافِعةُ المالِيةُ مُباحةً في بعضِ صورِها ، فإنَّ استِخدامَها المُفْرِطَ يَزيدُ مِن المَخاطِرِ ويَجعلُ التداوُلَ أَقربَ إلى القِمارِ .
- فَهْمُ آلياتِ السوقِ جَيدًا : لا تَدخُلِ السوقَ بمُجَردِ المُضارَبةِ العَشوائيةِ ، بل احرصْ على تَعلُّمِ التحلِيلِ الفَنيِّ والأَساسيِّ وفَهْمِ العوامِلِ المُؤثرةِ في أَسعارِ العُملاتِ .
- تَداول ما تَملكُ فِعليًّا : تِجنَّبِ البيعَ على المَكشوفِ أو الدخولَ في صَفقاتٍ تتطلبُ بَيعَ ما لا تَملكُ .
- تَجنب العُقودِ المُرَكَّبةِ التي بها غَرَرٌ : مِثل عقودِ الفروقاتِ (CFDs) وعقودِ الخياراتِ والعقودِ المستقبَليةِ ، حيثُ يَرى العديدُ مِن الفقهاءِ أنها لا تَتوافَقُ مع الشريعةِ بسبَبِ الغَرَرِ والمَيْسِرِ .
- استِشارةُ أَهلِ العِلمِ : إذا ساوَرَكَ أيُّ شَكٍّ حَولَ مُعاملَةٍ معَينةٍ ، فلا تَترددْ في استِشارةِ العلماءِ والفقهاءِ المتخصصينَ في المُعامَلاتِ المالِيةِ الإسلاميةِ .
بَعضُ الهَيئاتِ الشرعيةِ تَضَعُ مَعاييرَ لِلفوركسِ الحَلالِ .
- وَضْعُ هَدفٍ واضِحٍ ومُبَررٍ لِلتداوُلِ : لا يَكُنْ هَدَفُك الوَحيدُ هو الثراء السريع أو المُقامَرة ، بل اجعلِ التداوُلَ وَسِيلةً مَشروعةً لِكَسْبِ الرزقِ بَعدَ دِراسةٍ وتَخطيطٍ .
- إِدارةُ المَخاطِرِ : لا تُخاطِرْ برَأسِ مالِكَ بالكامِلِ ، وادرُسْ إِدارةَ المَخاطِرِ والخَسائرِ المحتمَلةِ .
- الابتِعادُ عن الشبهاتِ : القاعدةُ الشرعيةُ : " دَعْ ما يريبكَ إلى ما لا يريبكَ " مُهمةٌ جِدًّا في هذا المَجالِ .
ومَن اتقى الشبهاتِ فقد استبرَأ لِدِينِه وعِرضِه .
- السعيُ لِطَلَبِ الرزقِ الحلالِ البَيِّنِ ؛ فالمالُ المُختلطُ بالربا لا يُبارِكُ الله فيه .
- لا تَغتَرَّ بوَاجِهةِ " التحلِيلِ " و " التدريبِ " في الفوركس ، فكلُّها غالبًا غطاءٌ لِنظامٍ قائمٍ على الربا والمُقامَرةِ .
- مَن كانَ قد دَخلَ فيه ، فلْيَتُبْ إلى الله ، ولْيَتَوَقَّفْ فَوْرًا عن المُشارَكَةِ ، ولا يَعُدْ إليه .
البَدائلُ الشرعِيةُ المُتاحَةُ :
ابحَثْ عن فُرَصِ استِثمارٍ حَلالٍ مَوثُوقةٍ ، مِثل :
- التجارةِ العَيْنِيةِ ( الحَقِيقِيةِ ) .
- الأَسْهمِ المُبَاحَةِ .
- المَشرُوعاتِ الحَقيقيةِ .
- الصنادِيقِ الاستِثمارِيةِ الإسلاميةِ .
- المُشارَكةِ في المَشارِيعِ النافِعةِ .
الخُلَاصَةُ :
تَدَاوُلُ العُملاتِ عَبرَ الفوركس يُمكنُ أن يَكونَ جائزًا إذا التَزَمَ المُتداوِلُ بالضوابِطِ الشرعِيةِ الصارِمةِ ، خُصوصًا تجنّب الربا بكافةِ أشكالهِ ( بما في ذلكَ رسومُ التبييتِ والرافعةُ المالِيةُ الربويةُ ) وتَحقِيق التقابُضِ الفَوريِّ وتجنب الغررِ والميسرِ .
يجبُ الحَذَرُ مِن الشرِكاتِ الوَهمِيةِ أو التي تَعملُ بنِظامٍ رِبويٍّ .
والأَوْلَى لِلمسلمِ أن يَبحثَ عن طُرُقِ الكَسْبِ الحَلالِ الأَكثرِ ضَمانًا وأَقلّ مُخاطَرةً .
الحيطَةُ واجِبةٌ في هذه المُعامَلاتِ المُعَقَّدةِ .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إِعداد : أبي عبد الرحمن / أحمد بن محمد حربه
٢١/مُحَرَّم/١٤٤٧هجري .